المادة    
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ:
[وأما استدلالهم بقوله تعالى: ((إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ))[الزخرف:3]، فما أفسده من استدلال! فإن (جعل) إذا كَانَ بمعنى خلق يتعدى إِلَى مفعول واحد كقوله تعالى: ((وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ))[الأنعام:1] وقوله تعالى: ((وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ * وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ))[الأنبياء:30، 31].
وإذا تعدى إِلَى مفعولين لم يكن بمعنى خلق قال تعالى: ((وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً))[النحل:91] وقال تعالى: ((وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً))[البقرة:224] وقال تعالى:((الَّذِينَ جَعَلُوا القُرْآنَ عِضِينَ))[الحجر:91] وقال تعالى:((وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ)) [الإسراء:29] وقال تعالى:((وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ))[الإسراء:39] وقال تعالى: ((وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً))[الزخرف:19] ونظائره كثيرة فكذا قوله تعالى: ((إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ))[الزخرف:30] إهـ.

الشرح:
إن من يستدل عَلَى أن القُرْآن مخلوق بقوله: إن جعل تأتي بمعنى خلق، شبهته باطلة فاسدة؛ لأنهم يقولون: أليس جعل تأتي بمعنى خلق في لغة العرب؟
فيقول اللغويون لهم: نعم.
فيقولون: إن الله تَعَالَى يقول: ((إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً))أي خلقناه قرآناً عربياً إذاً فالقرآن مخلوق.
يريدون أن يفحموا، ويلزموا بهذه الشبهة الواهية لمن تأملها وتدبرها، ويجاب عليهم بأن الفعل الماضي (جعل) يأتي في لغة العرب ناصباً لمفعولين، فإن أتى ناصباً لمفعول واحد، فهو بمعنى خلق أو قريباً من معناها مثل قوله تعالى: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّور))[الأنعام:1] جعل بمعنى خلق الظلمات والنور فـ"جعل" فعل ماضي والفاعل ضمير مستتر يعود إِلَى لفظ الجلالة، و"الظلمات" مفعول به وكذا قوله ((َجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)) [الأنبياء: 30] نفس الأولى "جعل" فعل ماضي و"نا" ضمير فاعل و"كل" مفعول به.
((وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِي))[الأنبياء:31] رواسي مفعول به، ((وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً))[الانبياء:31] أيضاً مفعول واحد.
فمثل هذه المواضع تكون "جعل" بمعنى خلق؛
لكن هناك آيات تكون "جعل" فيها متعدية إِلَى مفعولين ولا يقول أحد إنها في هذه المواضع بمعنى خلق.
ولذلك نأتي بآيات قوية في الدلالة عَلَى هذا الشيء، لا يمكن للمعتزلي مهما مارى أن يقول إنها بمعنى خلق فقَالَ: إن قوله تعالى: ((وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً)) [النحل:91] هل يمكن أن تقول: قد خلقتم الله عليكم كفيلاً، لا يمكن لأي معتزلي أن يقرأ جعلتم في الآية هذه بمعنى خلقتم أبداً، فلفظ الجلالة مفعول أول وكفيلا مفعول ثاني فـ"جعل" هنا بمعنى: صير، فتنصب المفعولين، وتكون بهذا المعنى وقوله تعالى: ((وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ))[البقرة: 224] لا يمكن لأحد أن يقول: ولا تخلقوا الله، إنما معناه لا تجعلوه، ولا تتخذوه، ولا تصيروه، فلفظ الجلالة مفعول أول، وعرضة هو مفعول ثاني.
وكذلك قوله تعالى: ((الَّذِينَ جَعَلُوا القُرْآنَ عِضِينَ)) [الحجر:91] عضين أي أجزاء، فعضة أو عضو بمعنى جزء، فهَؤُلاءِ جعلوا القُرْآن أجزاء يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض أو قسموه فيما بينهم فمنهم من يؤمن ومنهم من لا يؤمن. فنحن وأنتم نتناظر في مسألة القُرْآن نفسه هل هو مخلوق أو غير مخلوق، فإذا كَانَ قوله "الذين" تعود إِلَى الكفار كما في آخر سورة الحجر ((الَّذِينَ جَعَلُوا القُرْآنَ عِضِينَ)) فالكفار هم الذين خلقوا القُرْآن وأنتم لا تقولون بهذا أبداً إذاً فـ"جعل" ليس بمعنى خلق إنما بمعنى: اتخذوه عضين، أو صيروه عضين، أي: جعلوه أجزاءً.
وقال تعالى:((وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ))[الإسراء:29] فقوله: ((وَلا تَجْعَلْ)) ليس معناها ولا تخلق يدك، إنما معناها ولا تصير أو لا تتخذ يدك هذا هو المعنى القريب منها إذا كانت متعدية لمفعولين، وإذا كانت متعدية لمفعول واحد، فهو بمعنى خلق كقوله تعالى: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ))[الأنعام:1]
والآية فيها عبرة ودقة، فلا يمكن أن يكون هذا من كلام البشر؛ لأنه خلق السموات والأرض والسموات والأرض، كما ترون جانب الخلق الحسي المشاهد عند الإِنسَان واضح فيها؛ لكن الظلمات والنور ليست أشياء يمكن للعقل أن يتصورها كمخلوقات محسوسة ملموسة أشبه ما تكون بالمعاني عَلَى الأقل في الذهن البشري.
في حسنا نَحْنُ البشر أن الظلمات والنور أشبه بالمعاني التي لا تنسب، ولا نستطيع أن نجعلها بنفس المستوى الذي هو للسموات والأرض، فهنا أتى بكلمة خلق، وهنا بكلمة جعل، ولله تَعَالَى في ذلك حكمة، وهكذا قد نظن وقد نتلمس الحكمة، ولكنَّ القُرْآن علمه عند الله عَزَّ وَجَلَّ، ومن قال فيه برأيه فليتبوأ مقعده من النار.
وقال تعالى: ((وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً))[الإسراء:39] معناها أي لا تتخذ مع الله إلها آخر وكذلك قوله تعالى: ((وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَاد الرحمن إناثاً)) [الزخرف:19] ليس معناها أنهم خلقوا الملائكة ولكن صيروهم واتخذوهم أو اعتبروهم، فالملائكة مفعول أول وإناثاً مفعول ثاني: ونظائره كثيرة.
فخلاصة ما سبق أن "جعل" في لغة العرب تأتي متعدية ناصبة لمفعول واحد، وتكون بمعنى "خلق"، وتأتي متعدية وناصبة لمفعولين، وتكون بمعنى اتخذ أو صير، ولم يأتِ ذكر في القُرْآن بأن "جعل" تتعدى إِلَى مفعولين إلا بالمعنى الثاني الذي هو بمعنى اتخذ وصير لا بمعنى خلق وإذا خرج ذلك فإنه تبطل الشبهة ويبطل الاستدلال الذي يستدل به المعتزلة ومن حذا حذوهم في هذا الباب.

والشبهة الثانية وهي قولهم: إن الله خلق الكلام في غيره. أي هو كلامه لكنه خلقه في غيره، وفي ذلك كلام المُصنِّفُ الآتي.
  1. شبهة من يقول : إن الله خلق الكلام في غيره والرد عليهم

  2. دعوة الفلاسفة والمفكرين إلى التفكير فيما ينفع